كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الكسائي ويعقوب: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} على صيغة الفعل الماضي، ونصب: {غَيْرِ} وهي قراءة على كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وأنس، وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل عمل عملًا غير صالح، وبه قرء أيضًا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} وإنما تقول عمل عملًا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعًا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك: {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا يخفى.
ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا: {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلًا لما تقدم ويفوتما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مسألتك إياي يا نوح: {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} لا أرضاه لك.
وفي رواية ابن جرير عنه سؤال ما ليس لك به علم عمل غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرًا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيًا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيها ما ذكر اندراجًا أوليًا فقال سبحانه: {فَلا} أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني: {تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي مطلبًا لا تعلم يقينًا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون: {مَا} عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبًا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون انلهي واردًا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردًا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأيًا مّا كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤال لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله:
ربيته حتى إذا تمعددا ** كان جزائي بالعصا أن أجلدا

وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارًا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناءًا على أنه كان بعد الفرق بل هو دعاء منه عليه السلام لانجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلًا أو بتقريبها إليه، وقيل: أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلًا عن العلم به لظهور إمكان عصمة لله تعالى عليه إياه برحمته، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعًا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظًا من الاحتياج إلى القول بالحذف والايصال، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.
وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل: إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى.
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر

فالحق أن ذلك مسألة الانجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالمًا بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرًا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضًا: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 24] لا يدل على أنه كافر عنده بل هو نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله سبحانه: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين}.
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضًا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله: {سَاوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} [هود: 43] بعد ما قال له نوح: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له: {إِنّى} إلخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاستباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بانجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثني منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلًا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولى العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابًا قال: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحًا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلًا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفًا لحال ابنه ولا مطلعًا على باطن أمره بل كان معتقدًا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناءًا على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحًا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبًا؛ وأما قوله سبحانه: {إِنّى أَعِظُكَ} إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه بم كما يدل عليه قوله سبحانه: {قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} ولا يخفي سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدًا، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحًا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يومًا، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحًا في ابنه وأنزل عليه: {إِنّى أَعِظُكَ} [هود: 46] بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحًا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالمًا بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرًا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: {رَبّ} إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضًا عبارة إما عن المسؤول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبًا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبًا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منك أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارًا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرًا هائلًا محذورًا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة: 67] من قول موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} أن تسألني، ورجح به كون ضمير: {أَنَّهُ} في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير: {فَلاَ تَسْأَلْنى} بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاءًا بالكسرة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن وابن أبي مليكة: {تَسْأَلْنى} من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها.
وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى} ما صدر عني من السؤال المذكور: {وَتَرْحَمْنِى} بقبول توبتي: {أَكُن مّنَ الخاسرين} أعمالًا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقديرسوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضًا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجرة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ} إلخ.
وهو من الحسن بمكان، وبنى الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي أنزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودى في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهرًا، ثم قليل له: اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها: قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتًا فسميت سوق الثمانين.
وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال: ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال: اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلًا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت: اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح: بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب، والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال: إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى باب فبنوها.
وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل.
وقرئ: {اهبط} بضم الباء: {بسلام} أي ملتبسًا بسلامة مما تكره كائنة: {مِنَّا} أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلمًا عليك من جهتنا: {وبركات عَلَيْكَ} أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركًا عليك أي مدعوًا لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وأصل البرك كما قال الراغب صدر البعير يقال: برك البعير إذا ألقى بركه، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة.
ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم وكونه غير محسوس اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل، وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ وبركة بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فبه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصة من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره: {وعلى أُمَمٍ} ناشئة: {مّمَّن مَّعَكَ} متشعبة منهم فمن ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد ممن معه أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناءًا على ما قيل: إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام؛ ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] وقد يقال ببقاء من على عمومه بناءًا على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق أيضًا، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: {وَأُمَمٌ} بالرفع وهو على ما ذهب إليه الزمخشري مبتدأ، وجملة قوله تعالى: {سَنُمَتّعُهُمْ} صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركًا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا: {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} فيها أو في الآخرة أو فيهما: {مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجوز أبو حيان أن يكون: {أُمَمٌ} مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة: {سَنُمَتّعُهُمْ} هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضًا: {سَنُمَتّعُهُمْ} ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ** بشق وشق عندنا لم يحول

وقول القرطبي: إنه ارتفع: {أُمَمٌ} على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس بجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول: كلمت زيدًا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالًا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.
وقال أبو البقاء: إن: {أُمَمٌ} معطوف على الضمير في: {اهبط} والتقدير اهبط أنت وأمم وكان الفصل بينهما مغنيًا عن التأكيد، و: {سَنُمَتّعُهُمْ} نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: {وَمَنْ ءامَنَ} [هود: 40] ولم يكونوا قسمين كفارًا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.
وجوز أن تكون من في: {مّمَّن مَّعَكَ} بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أممًا لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازًا فحينئذٍ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.
وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} ولأنه أشمل ولأن من الابتدائية لاسيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} [هود: 46] ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يرد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلمًا عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهمًا غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال: حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاءًا لأن من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضًا بإلزام أن لا حذف أصلًا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفًا فتدبر جميع ما ذكر.
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة وليس بشيء كما لا يخفى، وهاهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله:
وقبر حرب بمكان قفر ** وليس قرب قبر حرب قبر

ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه. اهـ.